عشرون عاما وأنا أذهب إلى هناك، تقطع السيارة الطريق في ساعتين ونصف، تتلاحق الأشجار المنغمسة في عشق الماء، عند الأفق طائر يسابق السيارة ويغني. أتهيأ للحب القادم، ويخفق قلبي لقرب اللقاء، أيها الحب ارفق بي!!..
الخضرة تلوح على مرمى البصر، والريف المصري يبدي سماحته، ينتهي الطريق الزراعي فيعلن الأصفر مجده، الرمال على الجانبين تمهد للصحراء، ومن بعيد يلوح البحر كخط أزرق، كقصة عشق لا تنتهي، الموج يكتب قصته والرمل يمحوها بسرعة.
أكتر من روحي بحبك
بحقيقي بحبك أكتر
انساب النغم الجميل من مذياع السيارة، أغلقت الزجاج كي أسمع أفضل، يهز الأبواب بقوة، يرتطم بالنوافذ وينفذ إلى القلب، فينسفني بألغام حب!!
الأغنية غنتها "لطيفة" منذ سنوات بعيدة، وقت أن كانت تدقق في كلمات أغانيها أيام البدايات، غنتها بلطف، غنتها بمودّة. اللحن لـ"عمار الشريعي"، الكفيف الذي لا يبصر إلا الأشياء الملونة، وبعين الروح يقرأ اللغات المندثرة، أغنية تحملني إلى عالم آخر، إلى مدى مختلف، متى سمعتها لأول مرة!!..
أحاول أن أتذكر...
كنت طفلا، قالت أمي وقتها: إن الله موجود ويحبنا، صدّقتها كما اعتدت أن أصدّقها، ارتدت حجابها الأبيض فبدا وجهها كالقمر، رفعت كفها في خشوع وقالت:
الله أكبر
لم أدرِ كم من الوقت مضى وأنا أرقبها، إحساس غامض تملكني أنها ليست معي، مخطوفة الروح في السماء السابعة، وقتها بدأ اللحن يتردد في أعماقي، بطيئا خافتا، لكنه مؤكد.
وشعوري بحبك أكبر
من إنه شيء يتقدر..
يتماوج اللحن، تستطيل الكلمة، يخرج الصوت من الأعماق، ترددها ببطء وكأنها تنوي ألا تفرغ منها، تغنيها إلى الأبد.. كم كابد الملحن وهو يخرج اللحن، وأحس أن روحه تخرج معه، كصوف مشتبك بشوك، كدخان يمهد بالحريق.
الشاعر لم يكتبها وإنما سطرت داخله، لم يفعل أكثر من إخراجها على الورق، والصوت بدا كأغرودة أزلية، كترنيمة بلبل، كديمومة صلاة.
المعاني أثقل من أن تحملها الكلمات، هذه ليست أغنية عاطفية وإن بدت كذلك!!، هكذا يخاطبني حدسي، ترنيمة مرفوعة إلى الخالق. نتدرب على العشق، نبدأ بزهرة، بحلم، بفتاة، بامرأة، نصل أو نتعثر، بعدها يعرف القلب طريقه، ويقع في حب مولاه.
........................
ولا كل لغات الدنيا
تقدر عن حبي تعبر
وغنايا كلمة: "أحبك
أكتر من روحي بحبك"
بالنسبة لدرجة حبك
رمز صغير مش أكثر
وأكتر، أكتر من روحي بحبك
.......................
مراقيا: المصيف الهادئ الذي أقصده كل عام، بحره الأزرق جوهرة متجمدة، أحجار كريمة تتظاهر أنها بحر، حدائق الزهور، وأشجار الأرز، وبيوت صغيرة متناثرة كأكواخ الغرام!!
لا أعرف ماذا يحدث لي حين أذهب إلى هناك، يغمرني الحب، يأسرني الوجد، يستعمرني الغرام. أحب كل شيء: البيوت البسيطة، السوق الصغير، بساطة التكوين، كثافة المحتوى، طفولة الأشجار، أحواض الزهور، محل تأجير الدراجات، ورائحة البنفسج تهاجمني عند منحنى الطرق.
البحر يناديني بلغة سرية، بنداء غامض، الشمس تسقط في الماء، كمراهقة تقع في الحب، والأزرق الحزين يغشي السماء تدريجيا، المصطافون يتسللون في هدوء دون أن أشعر، وكل مرة أجدني وحدي، لغة البحر أتقنها، الموج يردد كلمة واحدة طويلة متموجة في خشوع وتأنٍّ: الله.. الله..الله.
....................
وتصوّر حب الأزهار لربيعها
ييجي يزوّق ويعطّر
حب الأشجار لفروعها
للندى في الصبح يقطّر
........................
الكون يعرف خالقه، يتوجه إليه بالعبادة، الكون في حالة سجود، باللون، والظل، والرائحة، زهور الحدائق ورقصات العصافير، نقيق الضفادع ونداء الكروان.. الكون مفضوح الغرام.
وتصور..!!
حب الأطيار في عشاشها
لصغارها لحد ما تكبر
حب الفراشات طيرانها
على لمحة نور تتنور
وتصور كل ده كله
تلاقيني بحبك أكتر
....................
التناسق العجيب في عالم الجماد والأحياء، رقصات الذكور وقت التزاوج، سقوط الأوراق في الغابات الاستوائية، غرائز الحشرات الزاحفة في باطن الأرض، رحلة الضوء عبر المجرات.. الكون مأنوس ساجد، متوجّه بالحب لإله عظيم لا حد لجلاله وجماله وكماله، بديهية الكون ينطقها بكل اللغات، يكتبها بكل طريقة ممكنة.
................
وتصور..
حب الشاعر للمعنى
حب الرسام للمنظر
حب الكروان للمغنى
بالليل لِوَليف مستنظر
..............
في كل إنسان منا على وجه الأرض، أيا كانت ديانته، أو لغته أو اعتقاده، هذا الحنين إلى الله. في أعماقنا تلك النفخة من روح الله.. الذرة المضيئة العابدة، التي تجلى الله عليها، لحظة أخذ العهد في عالم الذر. في كل إنسان على وجه الأرض، مهما بلغت جرائمه وعظمت خطاياه، نقطة النور التي تتحول في لحظة إلى وهج توحيد. الكون يكتب الحب، والأرواح تقرأ اللغة، علاقة مباشرة بين الله ومخلوقاته، قطعت البشرية طريقا وعرا. لمن رقصت القبائل البدائية تحت القمر!، لمن ابتهل بوذا في تأملاته تحت الشجرة!، لماذا بنى الفراعنة التماثيل العالية، تنطق عيونها بالعشق والحيرة، الحب أنطق الحجر!!، وعلى ضفاف النيل أسمع التراتيل البعيدة، وأستنشق البخور المقدس.. كانوا يبحثون عن الله فهل وصلوا إليه أم لا، لا أدري!!، من أنا حتى أحكم!
.............
وتصور
حب السهران للنجمة
ونسه على قد ما يسهر
حب الحران للنسمة
في الصيف والجو محرّر
وتصور كل ده كله
تلاقيني بحبك أكتر
أكتر.. أكتر.. من روحي بحبك..
.................
لمن تغني العصافير كل صباح؟ وتحمل الريح زئير الوحوش الاستوائية؟ ماذا يقول خرير الماء الجاري بالزهور؟ ولمن ترقص النحلة تحت الشمس؟ ويتزين الطاووس بقوس قزح؟ ولمن يرقص البجع؟ ويبوح الياسمين في الأمسيات السعيدة؟
وتصور..
حب المخلص لحبيبه
اللي ولا بأيه يتغير
حب المؤمن لنصيبه
والقسمة والمتقدّر
الكلمات الجميلة تنفذ إلى القلب مباشرة، المناجاة العذبة والموسيقى الرقيقة. كانت عيناي غارقتين بالدموع، لوهلة شعرت أني الشاعر واللحن والأغنية. لم أكن أتودد لحبيبة أو أستعيد ذكرى، بل شعور صوفي خالص شعرت به لتوّي، وكأنه خلق طازجا. أحسست أن الأغنية تعبِّر عن حالي.
وتصور..
حب الإنسان لوجوده
لو حس بعمره بيقصر
حب الشبان لأملها
حب الأطفال للسكر
وتصور كل ده كله
تلاقيني بحبك أكتر
............
كانت مراقيا تقترب، واللحن يقترب من نهايته، قلبي في السماء وجسدي أسير الأرض!!.
البوابة والوجوه الملوّحة بالشمس، الشباب الطيبون يطلبون الرزق في شهور الصيف. والسيارة هدية ملونة مملوءة بالغرام، والبحر يستحلفني كي أحكي له، والشجر يجذبني كي أحكي له، والزهور تبتسم في صمت، واثقة من اختياري.
السيارة توقفت تماما، والأمتعة تنتظر من يحملها، قلبي مكدس بالحب فابحثوا من فضلكم عن حمال آخر، نزلت من السيارة ومشيت في طرقاتها المزدانة بالزهور، لم أكن أريد أكثر من أن أقول لربي -وهو أعلم- إنني أحبها.
