في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وعندما كانت مصر تعبر مرحلة حرجة من تاريخها، فكّر "عبد الناصر" أن يرسخّ أكثر فكرة القومية في أذهان الشعب.
والقومية هي أن تعتز بقومك.. بالمصريين من حولك إن كنت مصرياً، وبالليبيين إن كنت ليبياً.. أياً كانت جنسيتك فلتعتز بقومك، ومن بعدهم الأرض التي ولدت عليها!
ثم فكرة القومية العربية، وأننا أمة واحدة، وقطع "عبد الناصر" شوطاً لا بأس به في تحقيق هذا..
دارت المطابع لتصدر كتبا كثيرة، وصنعت الأغاني الوطنية، وكلاهما تؤيدان نفس القيمة – التي نحترمها على الرغم من كل شيء- وصار من الطبيعي أن تسمع أوصافاً لمصر.. فهي أرض العروبة، وهوليوود الشرق، وحلم العرب، وهي أيضاً القائدة للمنطقة العربية، ومنها وإليها تتجه الأمجاد، وتتحقق الأحلام!
لاحظ أن هذا كان يحدث في زمن المعتقلات، وثورات المفكرين على الأوضاع القائمة، وعلى ضربات الأعداء لنا ولهم!!
شعارات ترسخ أكثر مفهوم القومية، وصار الشعور الطبيعي الذي يشعر به المواطن عند سفره للخارج، والحنين الذي ينتابه بشراسة لكي يعود ليقبل تراب الوطن، وأن يوصي أن يدفن في بلده.. صار كل هذا يقنن، ويوضع في صور معينة، وأكليشيهات محفوظة ومملة "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الذل والاستعباد..." "المصريين أهمّ"... إلخ.
حتى وقت قريب من فترة التسعينيات كانت نفس النغمة سارية، وإن خفتّ حدتها قليلاً مع ثورة المعلومات، ومع تحول العالم لمصطلح شهير اسمه "قرية صغيرة"!
فقد كان من المعتاد عندما تأتي مناسبة قومية ما، ألا تكفّ الإذاعة ومعها التليفزيون عن عرض الأغاني الوطنية المؤثرة.. فهناك أغاني: مصر اليوم في عيد، و"يا أغلى اسم في الوجود يا مصر"... إلخ.
فلماذا اختلف الوضع الآن؟
لماذا تأتي المناسبات الآن، ولا تسمع من يشيد بها حتى!
هل لم تعد مصر الوطن الحبيب، أم أن الظروف قد تغيرت ولم يعد الحال - كما كان من قبل- نفس الحال؟!
لي صديق، تخرج في كلية الصيدلة.. كان حلمه أن يفتح صيدلية في قريته البسيطة، ويعيش هانئ البال مع زوجته التي لم يخترها بعد.. كان لديه عشق غير عادي للبلد.. يتابع القصص والروايات، ويقرض الشعر، ويتألم قلبه لما يحدث في فلسطين!
حدث أن سافر للقاهرة، وتزوج من قريبة له، وتم تعيينه في صيدلية شهيرة..
تغير الوضع الآن: المرتب "ع القد".. صار أباً، ومن ثمّ راح يفكر في مستوى دخله.. لا توجد سوى طريقة واحدة لكي يتحسن: أن يسافر للخارج!
سعى في الموضوع بجدية.. كنت أسأله عن حياته، وهل حقق ما يريد.. هو لم يطمح يوماً أن يكون وزيراً، أو عالماً، أو شاعراً فذّاً.. كل ما يريده حياة كريمة، وأن تُحترم آدميته.. فهل هذا كثير عليه؟!
كنت أميز في كلامه مرارة عن الحياة الصعبة، والمعيشة القاسية... وسافر للخارج.. وبعد مرور ما يقرب من عام.. سألته نفس السؤال.. وكانت الإجابة: برغم تغير الوضع فما زال لا يشعر بالراحة...
إنه في بلد مختلف عن بلده.. حنينه يمزقه.. لديه شعور بأنه أجير.. لكم تمنى أن يقضي حياته في الأرض التي أحبها، ووسط الناس الذين تعلق بهم.. لكنه مضطر!
صارت الحياة لا تطاق.. رائحة الفساد تزكم الأنوف.. لا توجد رحمة.. الغلاء يتزايد يوماً بعد يوم... وطنك صار طارداً لك.. لا يريدك بين جنباته.. فلماذا تتمنى أن تظلّ فيه؟!
زمان كنا نسمع أغنية "مصر هي أمي" للمطربة "عفاف راضي" فتقشعر أبداننا.. اليوم نسمعها فنتحسر على تلك المشاعر القديمة.. أجل.. هناك منها بقايا بين الحنايا.. لكن قست قلوبنا.. وطبعاً السبب مما نراه كل يوم.. نظرة واحدة في الصحف، أو جولة واحدة وسط الشوارع، سترى أن الحلم قد اختلف.. بل الحلم نفسه يتضاءل، ويكاد يتحول- إن لم يكن قد تحول بالفعل- إلى كابوس خانق!
جرب مرة أن تتحدث مع شاب من الطبقة المتوسطة عن الوطن.. ستجده يرمقك بضيق؟!
أي وطن هذا الذي لا تشعر فيه بالأمان؟!!
هنا مكمن الخطورة.. عندما يشعر المرء بأنه في مكان يكرهه أصلاً فلماذا يبادله الحب؟!
عندما أتابع أخبار أزمة الأطباء المصريين في السعودية، أقول من الطبيعي أن يفعلوا هذا!!
لقد عشنا في وطننا مهانين، فما الجديد لو صارت الإهانة في بلد آخر؟!!
عندما تقرأ كتاب "مصر مش أمي.. دي مرات أبويا".. أو تدخل مدونات لتجد إفرازات الشباب الموتور، ستشعر بالرعب الحقيقي!!
عندما كانت تعرض أفلام تتحدث عن عباقرة يتقدمون بمخترعاتهم للمسئولين، ويجدون نكراناً، ثم تجدهم يصرّون أن يحتفظوا به في أدراجهم حتى تأتي الفرصة إليهم!
في فيلم "سيداتي آنساتي" رأينا "محمود عبد العزيز" في دور دكتور فيزيائي لا يجد عملاً بشهادته، ومن ثمّ فهو يعمل كساع في هيئة حكومية، وعندما يُطلب منه أن يتركها وينسى أمرها يعارض، فرأيه أن البلد لن تظلّ كما هي!
ولحظة التغيير – حتماً – قادمة!
تغيرت النظرة الآن.. في مقطع حواري ساخر، وذكي، ومرير، يقول "محمود حميدة" للنجم "أحمد حلمي" في فيلمه الأخير، عندما حدثه عن أمنيته أن يتحقق اختراعه في البلد، كان رأي الأول أن يبيع الاختراع لمن يشتريه!
"وإياك تقولي مصر هي أمي.. أمك راقدة جوه"!
الكوابيس لدينا كثيرة... الفساد/ أطفال الشوارع/ أزمة المعاشات/ الوظائف الوهمية / الغلاء/ زيادة العنوسة لدى الفتيات... إلخ.
لكن أخطر كابوس هو أن تنتزع من شاب حبه لوطنه، وتجعله يزدريه... تجعل الوطن يزدريه طبعاً!
وتلك هي الكارثة الحقيقية!
لكن مصر ليست ما هي عليه الآن.. ليست الفساد / أطفال الشوارع / أزمة المعاشات / الوظائف الوهمية / الغلاء/ زيادة العنوسة لدى الفتيات... إلخ.
هناك مصر أخرى نفتقدها، ونتمنى أن تعود.. لكن لا تخاطر وتسأل أحدهم عن رأيه في الوطن، وهل: "مصر هي أمي"؟!
ستكون إجابته – في الغالب –: ممكن آه .. وممكن لأ!