عندما صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجبل ليقوم بنشر الدعوة جهراً كان يعلم مسبقاً وبشكل قاطع أن الأمر لن يكون هيناً.. كان يدرك أن العصبية القبلية التي تقوم لها حروب مثل البسوس، وداحس والغبراء، بل حتى حرب الفجار التي رآها النبي بنفسه وهو ابن خمسة عشر عاماً كانت بسبب العصبية القبلية في المعظم.. لهذا كانت الحرب ضد دعوته متوقعة تماماً.. عندها ظهر له "أبو لهب".. وكان موقفه الشهير الذي تحول "أبو لهب" بسببه من أشد أعمام النبي حباً له إلى شخص نزلت فيه إحدى أشد الآيات توعداً.
حسناً متى تحول الإنسان العربي إلى كائن متعصب أعمى غبي.. ربما منذ مئات السنين.. حاول أن تفتح نقاشا ما لتجده بشكل ما يتجه إلى الفخر بالأصل والعرق ولابد طبعا من الفخر بالدين ولو كان الموضوع دينياً لفخروا بالطائفة الدينية، المهم أن نجد خلافاً نلطم عليه وجوهنا إلى الصباح.
انظر مثلاً إلى ما يكتبه موقع قناة العربية، أياً كان الخبر سواء سياسياً أو دينياً أو حتى فنياً ستجد الردود تنقسم إلى بضعة أمثلة محفوظة مثل التالي:
- أنتم العرب مجرد متخلفين لا مكان لكم من العالم (كأن الأخ جاء من مانهاتن وتعلم العربية في حواري شيكاجو على رأي "فؤاد المهندس").
- هذا ما يحدث عندما يدخل الشيعة الأوغاد في الأمر.
- مصر أم الدنيا والباقي هم السبب في التخلف.
- مصر هي سبب التخلف والبذاءة ربنا اخسف بهم الأرض.
- الإسلام هو الحل.
هذا قليل من كثير جداً تجد من يفرد مقالات ليريك أن إلهه أفضل من إلهك.. وينتهي الأمر إلى طعن وقذف وسب في مكان كهذا (طبعاً ما تم حذفه من التعليقات كان أعظم).
هناك نكتة كنت قد سمعتها من فترة، النكتة تصف بدقة وضع الجميع حيث يجلس "عادل" و"مرسي" يتسامران فيقول "عادل" لصديقه:
- "سبحان الله الذي نشر هذا الدين في كل العالم"..
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بس برضه تلاقي الجنسيات البعيدة زي اليابانيين والصينيين والألمان والأوروبيين مش عارفين الدين صح، مش واخدين غير الاسم، عارف الدين الحق هو الموجود في أرض العرب".
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بس تلاقي أهل المغرب العربي مايعرفوش يصلّوا كويس، عارف الدين الحق هو الموجود في بقية البلاد العربية".
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بس برضه أهل الخليج دول يا جدع عليهم طوائف كتيرة ومعاهم العراقيين أغلبهم شيعة.. والخليج معظمه وهابيين ودول اللهم احفظنا بيغيروا في كل حاجة في الدين بمزاجهم.. الدين الحق في مصر بلد التدين".
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بس برضه تلاقي أهل المدن في القاهرة تحسهم كده مش مظبوطين وحريمهم ماشية على حل شعرها، وحالهم خيبة، الدين الحق في الصعيد".
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بس الصعيد كله مش حلو كفاية حكاية الثأر والذي منه وقتل بدون حق.. الدين الحق في الحارة بتاعتنا".
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بس عارف الناس في الحارة كلهم ستاتهم صوتهم طالع طول اليوم عالي، وماتلاقيش رجالتهم في الجامع وقت الفجر خالص.. الدين الحق هو اللي أنا وأنت عليه".
- "معاك حق يا "عادل" يا أخويا".
- "بقالي كام يوم يا "مرسي" حاسس إنك مش خاشع في الصلاة ليه؟"!
رغم سخافة النكتة وطولها، وكراهيتي الشخصية للنكات الطويلة لأنها محروقة من أول لحظة إلا أنها نكتة قاسية للغاية.
ما يدور في محاولة عقيمة للفهم في ذهني منذ الأزل هو: هل العرب عموماً والمصريون خصوصاً فقط هم من يتعمدون هذا الغباء في هذه النقطة، أم أن العالم كله به هذا البلاء؟ نعم كل دين فيه متعصبون.. بل كل شيء في العالم فيه تعصب، لكن النظرية فقط هل هذا هو الصحيح؟.. هل يجب أن تقوم حرب شاملة تلتهم كل شيء لكي يرتاح الجميع؟.. المشكلة أن الجميع يتناسى الآية التي تقول بصراحة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فالاختلاف شرط الحياة.. لا يمكنني تخيُّل أن يتحول العالم كله إلى قبيلة واحدة.. لن يحدث تنافس، لن تحدث محاولة للاجتهاد للفوز.. دائماً سيظل هناك من أسعى لأكون أفضل منه.. وإلا تحول العالم إلى بركة آسنة.
ترى هل جينات "أبي لهب" و"أبي جهل" لا تزال موجودة بداخلنا، هل تمكّن هذان المتعصبان الفخوران بسلطة أجدادهما لدرجة عدم الاستماع لصوت عقليهما من أن يفلتوا جيناً هارباً منهم إلى الأجيال اللاحقة.. الإجابة لا يمكنني أن أجرؤ على التفكير فيها.