وهي تتابع أحداث الجزء الخامس من "ليالي الحلمية" الذي تشاهده للمرة السادسة تقريبا، تشعر "إنجي" فجأة بالملل، وبحركة عصبية تلتقط الريموت كنترول وتغلق التليفزيون، يعمّ الصمت أرجاء الشقة فجأة، فتشعر بوحشة وخوف شديد، يجعلها تقوم من السرير فورا وتهرول تجاه الراديو لتشغله، ينساب صوت "أسامة منير" عبر السماعات الموزّعة بدقة في أركان الحجرة فيبدو وكأنه يقدم حلقة برنامجه الشهير "أنا والنجوم وهواك" من فوق السرير شخصيا!... ويقول:
"بكل الحب هنتكلم عن الحب.. وبكل الحب هنقول كلام عن الحب.. وبكل الحب اتفضلوا اتصلوا وقولوا عن الحب.. معاكم هنستقبل تليفوناتكم -بكل الحب- على "..........."... في الانتظار، ودلوقت نسمع أغنية عن الحب بكل الحب"...
تفكر "إنجي" ولم لا؟ كما يقول المثل الشعبي الشهير "غلب حمارها وحصانها وبغلها كمان"، والوضع الذي تعيشه أصبح لا يطاق، بيد مرتعشة وهي تراقب باب غرفتها الموارب في قلق، تتصل -بكل الحب!- بالرقم، تسمع الجرس في الناحية الأخرى، قبل أن يرد عليها أحدهم ويطلب منها الانتظار ثواني حتى يتم تحويلها على "أسامة منير"، تمر الثواني كالدهر، وهي تأكل أظافرها في توتر شديد، قبل أن يأتيها صوت "أسامة منير" مرحبا، وبدون أي سابق إنذار تندفع هي:
- خلاص يا "أسامة" مش طايقة.. أنا بأموت بالتدريج.. كل ده رغم إنه بقالنا سنة واحدة متجوزين بس.. آه مفيش أولاد بس ربنا يسهل جاي في السكة.. بس أنا شكلي كده مش هاعيش لغاية ما أشوفهم.. هيتولدوا يتامى يا عيني.. بس هيتولدوا إزاي رغم إني هأكون مت؟!
- اهدي بس يا "إنجي" وروّقي وكلميني كده -بكل حب- عن مشكلتك.
- بكل حب إيه وبتاع إيه.. باقول لك سنة كاملة متجوزين وخلاص حاسَّة إني قاعدة في مؤسسة لـ"الخُرس"، ييجي من الشغل "إزيك".. "إزيك".. يمكن ياكل ويمكن يطلع لي "منيو الطازج" عشان يثبت لي إنه أكل بره من غير ما يتكلم بحرف واحد، بعد كده يقعد قصاد التليفزيون يتفرج على الكورة أو على فيلم أجنبي شفناه قبل كده في السينما، وبعدين يقع من طوله وينام وهو حاضن الريموت في إيده.. ساعات أصحيه عشان أخليه ينام على السرير وساعات أسيبه كده نايم ورقبته معووجة، وأقول يا رب أصحى ألاقي رقبته طِولت زي رقبة الزرافة وميعرفش يرفعها أبدا!
- ليه بس كده إحنا اتفقنا إننا بكل حب هنتكلم عن الحب!
- هاتجنّن خلاص.. تخيل ده بطّل يكلمني في الموبايل وهو في شغله زي ما كنا متعودين زمان ده حتى ما بيرنش، آخره يبعت لي "كلمني شكرا"! ولما أكلمه مايردش، أقول له: يا عم ما يردش!، أقول له: يا سيدي ما يردش!، ولما ييجي أسأله يقول لي رصيده خلص وحَب يطمّني وكمان ما حبش يخسّرني "30 قرش" تمن المكالمة؛ لأنه عارف إننا هنقول كلام متكرر.. "كويس" "الحمد لله" "جاي إمتى" "مش هتأخر".. ونقفل!
- هممم... رغم إننا بنتكلم -بكل حب- عن الحب.. بس واضح كده إن فيه مشكلة عندكم في الحب.. سلك الباور في علاقتكم مهزوز تقريبا ومحتاجين تغيّروه..
- طب قول لي أعمل إيه بس.. أصل.. ياما!.. إيه ده إنت صاحي أمال قلت هتنام في الأوضة التانية عشان الحر ليه.. بتكذب علي..
- إحم.. "إنجي" أنا "أسامة منير" بكل الحب بأقول لك أكيد أنا صاحي من أول المكالمة أمال بنتكلم مع بعض إزاي؟!
- مش إنت طبعا.. أنا بأتكلم عن جوزي.. أهو اتفضل.. قال لي هينام ومانامش.. كان هربان مني ومش عاوز يكلمني وبيفضل برنامجك عليّ.. بص يا "أسامة" –بكل الحب- بعد إذنك بقى؛ لأن -بكل الحب- هأقتله وارتاح!
- يا "إنجي".. اصبري طيب.. يا بنتي تفاهموا بكل الحب.
- .............
- "إنجي"....
- عااااااااااااااااااا.. مش هاسيبك النهارده!
- إحم.. ونكمل حلقتنا النهارده.. وبكل الحب هنتكلم عن أزمة كبيرة بتقابل قطاع كبير من اللي بيحبوا بعض.. الصمت.. والصمت يا أصدقائي -بكل الحب- يعني.. و... ثم .. لأن.....
****
الله يرحمه كان طيب والله بس مشكلته إنه كان يعاني من داء "الخرس"، بنتكلم على مين؟ على المأسوف على شبابه طبعا زوج "إنجي"! الذي من الأكيد أن هناك منه نسخا كثيرة في مصر، ليس حتى في مرحلة الزواج فحسب بل ربما يطول هذا الخرس مرحلة ما قبل الزواج في الخطوبة أو حتى بدايات التعارف.
مشكلة وأزمة طبعا، خاصة أن الأمر لا يقف عادة عند حد الرجل فحسب، بل يتطور ويصل إلى المرأة أيضا، وبعدما تكون هي الطرف المظلوم في المعادلة؛ لأنها تريد التواصل مع زوجها أو حبيبها فيما يتجنب هو هذا لسبب أو لآخر، تجد المرأة نفسها هي الأخرى لا تملك المزاج الرائق أو الكافي للدردشة مع الرجل، ولسان حالها يقول: "بلا خيبة.. خدنا إيه من الكلام يعني؟!"
بداية فلنبشر كل الذين يعانون من هذا الداء "الخرس العاطفي"، الأمر لا يتعلق بكم فحسب، ولا يدور نطاقه في مصر وحدها فقط، وإنما انتشر في كثير من دول العالم -المتقدم منه على وجه الخصوص.. شفت قد إيه مصر متقدمة!- وها هم البريطانيون يخططون وينفذون الدراسات الاجتماعية في محاولة للقضاء على هذا الأمر بعد أن كبر ولظلظ واستفحل وبات يهدد السلم الاجتماعي -جد مش هزار- هناك.. وهنا طبعا!
فالثابت أن حالات "السايلانت المشاعري" بين الأزواج هي واحدة من أهم أسباب الطلاق، بل يمكن القول بأنها واحدة من أسباب الطلاق المنطقية؛ لأنه إذا كان المرء قد تزوج من أجل أن يخاطب حيطة بيت آخر -إيجار جديد بالمناسبة- بدلا من أن يخاطب حيطة بيت والده، فليوفر فلوسه من الأول!
ما الأسباب؟ كثيرة.. أولا "الطاحونة" التي يعيشها المواطن المصري المعاصر سواء كان متزوجا أو يستعد للدخول في القفص بكامل إرادته الحرة، ففي كل الأحوال هو مطالب بالعمل 36 ساعة في 24 ساعة من أجل أن يوفر جنيها على جنيه يمكِّنه من شراء الصالون والأنتريه والسفرة -عدد 8 كراسي والشفاط- قال يعني المدام بييجي لها انهيار عصبي من ريحة دخان الأكل! -والسخان- مالها الميه الساقعة -والبوتاجاز- ما تأكلوا بره! إلى آخره في المرحلة الأولى، قبل أن تتزاحم وتتكاثر المسئوليات بعد الزواج فور أن ينغلق عليه باب شقته هو وزوجته لأول مرة والتي لا تبدأ بتوفير أقراص الطعمية الساخنة كل يوم ولا تنتهي باستبدال الأنبوبة "اللي ما كمِّلتش يومين"!
العمل المستمر والمرهق هذا لا يجهد الجسم فحسب بل يجهد الأعصاب والدماغ ويفقد القدرة -خصوصا بعد يوم طويل وشاق- على التواصل والحديث، ويجعل الفرد يميل إلى الصمت، هذا يحدث أيضا مع المرأة لكنه بكل تأكيد يتجلى أكثر في حالة الرجل الذي بطبيعته أقل ميلا للحديث والفضفضة مقارنة بالمرأة التي قد لا يمنعها إجهادها من فتح شبابيك الكلام وبلكوناته، وقد ترى أن هذا "الدودودود" يفرج عنها قليلا أو كثيرا من متاعب اليوم بأسره "طول النهار واقفة على حيلي من ساعة ما جيت من الشغل.. بأطبخ وبأنضف يعني هأكون بأعمل إيه.. أسكُت.. النهاردة الأستاذ "حسونة" المدير في الشغل عمل حتة موقف... و...................."!
ما التوصيات في هذه النقطة؟ لا شيء أكثر من تفهُّم أسباب "الصمت" واحترامها هذا يعطيك -الحديث هنا موجه للمرأة- نقطة تفوق في علاقتك مع الرجل؛ لأنه سيدرك أنك تقدرين ظروفه وضغوط العمل التي يعانيها، ولا تثقلين عليه بالـ"دودودود" و"أنت مابقتش تحبني زي زمان يا شوكت!"، نقطة التميز هذه لا تأتي بأن تكوني خرساء بدورك، لكن عليك تجاذب أطراف الحديث معه، ولا بأس من أن يكون هذا الحديث مرحا ودمه خفيف، وفور أن تستشعري أن الباشمهندس لا يلتقط مثل هذه الإشارات بدرجة جيدة أوكيه فلتكن "شكلك تعبان يا حبيبي.. أنا هاقوم أجهز العشاء على بال ما تريح شوية".
هل هناك أسباب أخرى لـ"الخرس المشاعري"؟ طبعا أمال إحنا بنكتب في الموضوع ده عشان نهزر ولا إيه! لاحظ أننا نعيش أزهى عصور التكنولوجيا، ومن يفر من متابعة التليفزيون سيجلس "متنحا" أمام الإنترنت لساعات وساعات، بل إنه حتى يمكن أن يوفر ثمن الإنترنت بأن يلعب "جيمز" من أبو بلاش، هل هذه عوامل تساعد على "الخرس" بين المحبين والأزواج؟ أي نعم.. انغماس أي طرف - رجل أو مرأة- في عالم التسلية والترفيه "التليفزيون، الإذاعة، الإنترنت" يسحب كثيرا من رصيده الروحي والقدرة على التواصل مع الآخرين بشكل عام ومع أقرب الناس إليه بشكل خاص؛ لأنه في هذه الحالة يتحول إلى طفل في عامه الثاني، إذا ظل صامتا ومن حوله كذلك صامتين، لن يتكلم إلى أبد الدهر، أولا لأنه ليس هناك من علّمه نطق الحروف، وثانيا لأنه ليس في حاجة إلى التكلم وكل ما يريده يحصل عليه بالإشارة أو الصمت، تماما هذا حال الذين يستحوذ عليهم الإنترنت والتليفزيون، وهو يعمل "شات" أو يتصفح في مواقع ليس في حاجة للحديث، ذات الأمر يتكرر في التليفزيون؛ لأن من يشاهد "عادل إمام" في "المنسي" لن يكون في حاجة للحديث معه بكل تأكيد؛ لأنه أكيد برضه "عادل إمام" مش هيرد عليه؛ لأنه بيشتغل ومش فاضي!، وإذا كانت القاعدة الدارجة تقول بأن العضو قليل الاستخدام أو الذي لا يستخدمه الإنسان يضمر ويفقد قدرته على القيام بمهامه، فهذا أمر يمكن تطبيقه على اللسان بكل تأكيد.
ما التوصيات هنا؟ لا توجد روشتة ثابتة تصلح للتطبيق في كل الأحوال، لكن بالطبع هناك قواعد عامة يمكن الاستناد إليها، كأن مثلا تناقش الزوجة مع زوجها -وبالعكس- ما يشاهدونه في التليفزيون أو ما يتصفحه على الإنترنت أو يستمع إليه في الإذاعة، هذا يعيد فضيلة "الحديث والمشاركة" حتى ولو كانت مرتبطة بحدث وقتي سيزول، لكنه في كل الأحوال يقلل من مساحات الصمت، وربما يلغيها في وقت لاحق، خاصة أن الحوار الذي يبدأ بـ"حلو فستان يسرا ده" قد يتطور إلى "ما تيجي ننزل نشتري هدوم جديدة؟"، أي أنها قد ينقلكم إلى حالة أخرى ومجال آخر للحديث بل حتى قد يجعلكم تغيرون المكان نفسه الذي يفرد عليه الصمت أجنحته، تعبير قديم وكتير استخدموه في حصة النصوص بس لطيف ويمشي يعني كما أنه فيه صبغة تحذير؛ لأنه لما الصمت يفرد اليوم أجنحته بكرة يعمل عِشة وبعد بكرة أصحابه ييجوا -كلهم صمت برضه- يسكنوا عندكم في الشقة.. وإنت حر يعني!