هذا مشهد يحدث كثيراً في الأفلام السينمائية، لكن هل تخيلت أنه من الممكن أن يحدث في الواقع؟ عنك أنت الإجابة هذه المرة، وخذها منا أكيدة وموثقة: نعم.. ونعمين وثلاث نعمات كمان!
أما المشهد فهو كالتالي:
الزوج الذي اعتاد أن يعود من عمله متأخراً الساعة العاشرة مساء -أيوه عشان يلحق برنامج "منى الشاذلي"!- يعود مبكراً إلى المنزل في هذا اليوم الذي تزينه الغيوم في السماء، الساعة الآن الثانية بعد الظهر، يفتح الباب في هدوء وحذر؛ حريصا ألاّ يصدر منه -الباب مش هو- أي (تزييقة) مزعجة كاشفة، يتسلل إلى الداخل كحرامي محترف، حتى تحسب أن ما ينقصه فقط هو ذلك القناع على عينيه ليصبح بعدها عضواً عاملاً في عصابة القناع الأسود الشهير في عالم "والت ديزني"، يغلق الباب في صمت.. يطمئن إلى أن تكِّة الإغلاق من الصعب سماعها، يخلع حذاءه في بطء؛ ليلمح أصابع قدميه وقد تدلت من الشراب المقطوع، فيزيد هذا من انفعاله، يسير على أطراف أصابعه حتى تحسب أنه يطير ولا يلمس الأرض، لو كان هذا فيلماً سينمائياً لاختار المخرج أن تكون زاوية الكاميرا في هذا المشهد هي "وجهة النظر"، أي أنك سترى صالة الشقة ثم الممر الضيق المؤدي إلى غرفة النوم، بعين الزوج المكلوم، الصورة ستكون مهتزة مرتبكة؛ للتعبير عمّا يموج في داخله من انفعالات، يقترب من باب غرفة النوم، يرهف السمع، وتستطيل أذناه حتى تحسب أنه "أجَّرَهُما" من حمار حصاوي، يسمع الكارثة.. الصدمة.. "هي هي هي .. هيييييي!"، هي ضحكة زوجته.. الخاينة.. الندلة.. الـ.... أي حاجة! يتقمص شخصية "عبد الفتاح القصري" في فيلم "ابن حميدو" وهو يهتف: "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم".. وبطريقة سريعة عنيفة مريعة، يفتح باب غرفة النوم وهو يحاول أن يتذكر أين وضع السكينة التي قشر بها "البرتقال" بالأمس، وهو يصرخ بصوت قادم من غياهب التاريخ "خااااااااااااااااااينة"!
تهب الزوجة مفزوعة من السرير، وتصاب بخوف ورعب و(ازبهلال) نادر، وهي ترى عيونه الحمراء ككاسات من الدم، قبل أن تسأله في جزع: (فيه إيه يا "أحمد" كفى الله الشر)، يهتف "أحمد" وقد تحول إلى "دراكيولا" بشري: (هو فين.. فينه.. اطلع يا ندل)، تنطلق الضحكة من جديد "هي هي هي.. هييييي!"، فيندهش؛ لأن زوجته أمامه خرساء صماء بفعل الخضة، فمن أين خرجت هذه الضحكة إذن؟ تأتيه الإجابة من التليفزيون الذي تطل منه مذيعة بلهاء لتقول: (نعتذر عن قطع الفيلم العربي "ضحكتني بجد يا أحمد"! لإذاعة موجز الأنباء.. ونواصل عرض الفيلم بعد انتهاء الموجز.. خليكوا معانا.. وما تمشيش بجد يا أحمد.. هي هي هي.. هييييييي"!)
***
بتضحك؟ طب والله حصلت وبتحصل وهتحصل.. "الشك" ربما يكون مرضاً أزليا سيظل معشِّشا في "أرابيز" النفوس إلى يوم الدين، صحيح أن درجاته تتفاوت بين شخص وآخر، ويكون في بعض مراحله قابلا للعلاج، وفي حالات تانية "عملنا اللي علينا والباقي على ربنا"، إلا أنه يظل موجودا، طالما ظل هناك رجل وامرأة، وطالما ظل هناك حب كبير يعاني من التضخم أو حب صغير يعاني من الهزال، وطالما ظل الشيطان جالسا فوق الأدمغة مدلدلاً رجليه يوسوس بما يريد، وطالما ظل التليفزيون يذيع فيلم كـ"ضحكتني بجد يا أحمد"!
د."خليل فاضل" أستاذ الطب النفسي الشهير يٌعرّف الشك بأنه (فكرة تتملك الإنسان تجاه الأشخاص أو الأماكن أو الأشياء أو المواقف وتؤدي إلي ضيق واضطراب في المزاج، وهو شعور إنساني عادي إذا كان في حدوده لكنه إذا ما صار مرضياً فإنه يقلب حياة صاحبه إلي جحيم، وقد يتحول إلى ضلالة"، وبما أننا نتحدث عن الشك في الحب، فالأكيد أننا سنتحدث عن تلك الفكرة التي تتملك الإنسان تجاه الأشخاص.. يعني اللي بيشك في أن "الكنبة" بتخونه مع "الكرسي" ممكن يتفضل من هنا!
***
لنتفق منذ البداية أن الشك ليس عيباً يسهل اكتشافه مبكراً "دا حاجة خبيثة بعيد عنك!"، والقصد هنا أنه في أي علاقة أولية بين أي ولد وبنت "في الحلال طبعا!"، كالخطوبة مثلاً ليس من الضروري أن يتم فيها اكتشاف مثل هذا السلوك الشاذ "الشك المبالغ فيه"، من أول قعدة، ولا حتى من تاني أو عاشر قعدة، لكنه فقط يتكشف في "المواقف والاحتكاكات المباشرة"، وبشكل تدريجي، فمثلاً لو حدث أنه لما عرف خطيبك أنك جئت إلى هذا "الكازينو" الذي تجلسون فيه عن طريق "تاكسي" فسألك مثلاً مثلاً: (وكنت راكبة لوحدك ولا معاك حد؟)، فهذا سؤال عابر، ربما يكون قاله على سبيل فتح الكلام، أو الدردشة العادية، أو حتى للاطمئنان عليك، لكن لو تكرر نفس السؤال بنفس الصيغة أو حتى بصيغ مختلفة تحمل نفس المعنى في كل مرة تتقابلون فيها، فهذا أمر يثير الشك في أنه يعاني من مرض الشك! خاصة إذا صاحب سؤاله المتكرر نظرة فاحصة متفحصة متقمصة لدور جهاز كشف الكذب؛ ليعرف ما إذا كنت تقولين الصدق أم لا.
اكتشاف وجود صفات الشك في الحبيب "عريس المستقبل البهيج" في مرحلة الخطوبة أمر جيد -على عكس ما يبدو- لأنه يسمح بعلاج الأمر في وقت "آمن" لا يزال فيه الجميع على البر، فإذا كان للبعض أن يتفهم "الغيرة" فمن الصعب أن يتقبل "الشك"؛ لأن الأخير يحوِّل الحياة إلى جحيم لا يطاق بالفعل، ليس معنى هذا "الفلسعة" من "أول شكة"، وإنما لا بد من محاولات للإصلاح، خصوصاً أن جزءاً لا بأس به من الشك يتولد في بعض الأحيان بحكم "ضعف العلاقة"، أي في تلك المرحلة التي يستكشف فيها الرجل المرأة وبالعكس، وهي مرحلة يمكن وصفها بـ"كي جي وان.. حب"، تلك المرحلة التي لا يعرف فيها الطرفان شيئاً كثيراً عن الطرف الآخر، ويكون هناك ترقب ومحاولة لفهم الأفعال وردود الأفعال.
طريقة الإصلاح، لن تأتي إلا على الطريقة "النابليونية" الشهيرة "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، بمعنى أنه بدلاً من تضييع الوقت في شرح أنه: "والله جاية في التاكسي لوحدي، والله اللي كان قاعد جنبي في فرح بنت خالتي ده راجل قد جدي، والله ما كنش فيه حد جنبي وإنت بتكلمني في الموبايل، والله ده "هاني" أخويا هو اللي كان بيشرب سجاير ما أنت عارف بيعمل كده من ورا بابا)، يجب التصويب مباشرة نحو الهدف بالقول الصريح الواضح: (أنت بتشك فيّ ليه)؟
هكذا يكون الحوار بينكما على أرضية مشتركة وبأوراق مكشوفة، ليس فيها تورية أو تخفٍّ وراء أشياء غير حقيقية، كما أن هذا أقصر الطرق لعلاج الحبيب من الشك، الذي لا يولد "شيطاني" هكذا، وإنما تكون له جذور مرتبطة بشخصيته هو أو بأسرته أو بالبيئة التي نشأ فيها.
فهناك شخصيات بطبيعتها تعاني من الاضطهاد ومن الشعور بأن الآخرين يتربصون بهم من أجل إفساد حياتهم -ليه.. ما تعرفش!- وهذه الشخصية "المضطهدة في نفسها" سيكون "الشك" بالنسبة لها "تسلية" كقزقزة اللب أو أكل الفيشار أو شرب عصير القصب في وسط شهور الصيف!، وهذا نوع لطيف نادر؛ لأنه يكشف عن "شكه" سريعا ومبكرا، وهذا مفيد جدّاً؛ لأنه يجنبك لوعة الفراق المتأخر إذا ما وقعت في حبه، يعني من بدري كده لو اتضح أنه من النوع الذي يشك في نفسه إذا اختلى معك في جلسة ما.. يبقى يا فكيك!
هناك نوع آخر من "المشككاتية" الذين يرثون تلك الصفة اللعينة من الأهل، ليس بشكل مباشر؛ لأنه لم يثبت حتى الآن وجود جينات للشك، وإنما عن طريق نقل الخبرات والمشاهدات، كأن يكون والده مثلاً "شكاك أصلي وارد اليابان"، لدرجة أنه لو وجد زوجته قد طبخت "كوسة" بدل من "الفاصوليا" كما هو معتاد، ظن بأن "الفاصوليا" تذكرها بالحبيب القديم، أو أن تكون والدته من النوع الذي حول حياتهم الأسرية إلى جهنم حمراء؛ لأنها تشك في والده إذا جاء متأخراً "كنت عند السنيورة طبعا"، وإذا جاء مبكراً "هي السنيورة غيرت مواعيدها ولا إيه؟!"، وهذا نوع من الممكن علاجه لو كان ما بينكما حباً حقيقياً بالفعل؛ لأنه تدريجيا سيكتشف -عن طريق أفعالك الواضحة وأسلوبك الشفاف معه- أنه لا داعي لكل هذا الشك، طالما كنت أنت "زي الفل" أمامه، وسيدرك يقينا أن والديه أضاعا على نفسيهما الاستمتاع بالحياة بعد أن تركا الشك هو الذي يستمتع بشجارهما وخناقهما المستمر الذي لاينقطع.
يبقى نوع أخير من "الشكاكين" هذا الذي لا يعاني من عقد اضطهاد، ولا يوجد في تاريخ عائلته –أيوه طبعا لازم تروحي تسألي في السجل المدني عليه! ـ أي إشارة أو حوادث أو مشاكل مرتبطة بالشك الذي يقتل -فيه فيلم اسمه "الشك القاتل" بالمناسبة إخراج "عز الدين ذو الفقار" ابقى اتفرج عليه دا مفيد جداً والله!- ولربما يرتبط بك وهو كالملابس البيضاء بعد نقعها في "الكلور"، لا يوجد في داخله ذرة شك واحدة، ولكنه ـ لأنه بشري وليس مريخي! ـ قد يتأثر بالبيئة المحيطة به.. زملائه في العمل.. الجيران.. أصدقائه.. وحكاويهم التي قد يطل منها الشك في سلوك الزوجات، صحيح أنه لو كان يحبك فعلا لن تتزعزع ثقته فيك ولو لمرة واحدة، لكن المثل الشعبي يقول: "الزن ع الودان أمرّ من السحر"، ومن الوارد جدّاً أن ما يراه حوله من قصص "تشكيكية" يكون عاملاً مساعداً على تحفيز عوامل الشك الكامنة بداخله، هذا طبعا أسهل الأنواع "التشكيكية" في العلاج؛ لأن الشك عنده "أمر عارض" وليس أساسياً.. فقط يحتاج الأمر إلى بعض من التفهم وتحمل انقلاب سلوكياته، وتطور بعض العبارات من "ما تتأخريش يا حبيبتي عند مامتك" إلى "اتصلت بأمك من ساعة ونص لقيتك مشيتي.. كنت فين يا أستاذة؟"، والتعامل مع كل هذا على أساس أنه عرض للحب الذي يعاني من التضخم، والذي ستزول آثاره السلبية بعد فترة لو تم التعامل معه بشكل إنساني يتفهم دوافعه.
***
حصة نفسية مكثفة هذه المرة، لكنه "الشك" الذي يأتينا على أجنحة النفس البشرية المتقلبة، فلم يكن هناك طريقة سوى أن نقلبها "نفساوي" المرة دي.. أوع يكون فيه حد عنده "شك" في كده!