لأول وهلة أراد أن يعترض.. يكفيه ما هو فيه من ضيق وألم.. لم يكن ينقصه حمل جديد يوضع علي عاتقه.. في تلك الزنزانه المكتظة بالبشر المتهمين بجرائم ارتكبوها أو لم يرتكبوها. حيث القذارة هي عنوان المكان.. والآدمية قد اختفت بلا رجعة.. بمجرد أن أمال أحد المسجونين رأسه ووضعها علي كتف زميله واستسلم للنوم.. لم يطق الآخر هذا الوضع الذي من وجهة نظره حط من كرامته وامتهنها امتهانا لا يغتفر وساوي بينه وبين حثالة البشر الذين جمعهم القدر به في مكان واحد لا يستطيع المرء فيه قضاء حاجته الا في دلو معدني وأمام الجميع. هو الذي اعتاد الفراش الوثير والنظافه المثاليه والخدمه الدائمه من كل من حوله.
غلي الدم في عروقه وامتلأ غضبا.. وعزم في قرارة نفسه علي جعل والده يريهم جميعا كيف يندمون على ما فعلوا بنجله العزيز. كان على وشك أن يستنهض الآخر ويزجره حتى يرفع رأسه القذر عن كتفه الكريم ولكن بارقه من حكمة وترو جعلته يتراجع.. فمن يدريه ما الذي يمكن أن يفعله به هذا المجرم بل كل أولئك الموجودين بالزنزانة اذا ابدى اعتراضه او حنقه.. فكما لم يبال الضابط الذي اودعه الحجز بتهديداته بشأن والده ومركزه المرموق من الممكن الا يبالي ايضا باعتداء هؤلاء الوحوش عليه.. وكان كلما شعر بعجزه عن الخروج من هذا المكان ازداد غضبه واخذ يرسم في مخيلته ما سيفعله والده في الصباح ويتخيل الضابط المسكين الذي سينتهي مشواره الوظيفي قبل أن يبدأ.. نتيجة لسذاجته التي جعلته لا يصدق أن هذا الشاب الذي أمامه ابن صفوت بك عبد العزيز لمجرد أنه لا يحمل تحقيق شخصيته ويصر علي أن يبيت ليلته في الحجز ثم يحال الي النيابه.. ولماذا؟ لمجرد أنه قاد سيارته بعد أن شرب كأسين من الخمر ودون أن يحمل رخصة قياده. هل هذه جريمه تستحق انه لم يصب أحدا ولم يحدث أي ضرر فلماذا كل هذا العنت وقد كانت الليله في منتهى الروعه والحياه قد تلونت باللون الوردى والسياره قد أوشكت أن ينبت لها اجنحه وتحلق به بعيدا عن هذا العالم الكئيب..
ولم يقطع استرساله في افكاره تلك سوى ذلك الأنين المكتوم الذي صدر من رفيقه حيث اخذ يغمغم بكلمات غير مفهومه لم يميز منها سوي بضع مفردات متناثره عن تهاني التي أضاعت البنت منها لله واستمرت تلك الغمغمه قليلا ثم تلاشت وعاد الوضع الي هدوئه السابق ولأسباب غير معلومه.. ربما شعوره بالوحده وسط كل أولئك النائمين أو الموشكين علي النوم. وابتعاده عن وسائل الرفاهيه التي اعتاد عليها او ربما لاحساسه بالالم الذي ينطق به جاره كلماته او ربما لسبب اخر لا يعرفه..
وجد نفسه يشعر بالفضول نحو هذا الرجل الذى بعد ان دقق في ملامحه جيدا وجده لا يكبره بكثير كان في حوالي الخامسه والثلاثين من عمره عرف ذلك من ملامح وجهه التي لم تشبها التجاعيد بعد ولكن رغم ذلك فقد نبتت له بعض شعيرات بيضاء وسط شعره الأكرت الحالك السواد.. كان رث الثياب بالطبع وذقنه غير حليقه واحتوي وجهه علي بضع ندوب من المؤكد ان نفسه تحتوي اضعافها.. وخيل اليه فجأه ان هناك تشابها بين ملامحهما وربما كان ذلك محض وهم.. ولكن من هي تهاني تلك ؟من المحتمل أنها زوجته والبنت التي يتحدث عنها ابنته.. ومن الممكن ألا يكون الأمر كذلك بالمره فقد تكون هناك قصه أخري خفيه واحداث أخري ولكن الأمر الوحيد المؤكد هو ان هذا الرجل يتألم ومما أثار دهشته أنه بدأ يشعر بالشفقه نحو ذلك الشخص الذي كان منذ دقائق لا يزيد في نظره عن كونه مجرما وقمامه ينبغي التخلص منها.. هذا الانسان الذي لم يجد ما يريح رأسه عليه سوي جسد آدمي اخر عوضا عن كتل الصخر والأسمنت التي كونت أرضية الزنزانه ومقاعدها..
ملأت الخواطر رأسه وحيرته الأسئله وبدأ يشعر بتشوش ذهنه واختلاط افكاره.. وعن له فجأه خاطر متعلق بوالده.. تري هل يحبه مثلما يحب هذا الرجل ابنته.. هل يراه في أحلامه.. هل حدث وأن رآه في احلامه مره وعندما تذكر والده شعر بغصة في حلقه.. وتمني لو أن هناك شخصا واحدا في هذه الحياه يحبه حب هذا الرجل لتلك البنت التي اضاعتها تهاني.. وقبل أن تتحول تلك الغصة الي دموع في مقلتيه.. اغمض عينيه بقوه وأراح رأسه علي رأس جاره النائم