أنجبت هارون في العام الذي لا يقتل فيه فرعون الصبيان ..... فهدأ بالها واستراحت .. وحمدت الله كثيراً أن منع عنها الهم والحزن بقتل الولد .... كانت تتألم لألم كل أمهات بني إسرائيل .... ولم يكن بيدها لهن حيلة إلا الدعاء ... يوكابد من بيت الصالحين نسل سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام ..... ولكن شاءت إرادة الله أن تحمل ثانية ... وطوال حملها لا يشغلها سوى موعد الولادة .. وهل سيكون في عام القتلى أم يتخطاه .. وهل هو صبي أم صبية
فلما وضعت وضعت صبياً مليحاً عطراً ....
آه ياربي ..... ما أعز النعمة و أقسى الحكم ... ربي لا تحرمني ولدي ولا تثكلني به ....
كان فيضان دمعها السخين يحرق كبدها .... وشفاهها التي تتمتم بالدعاء لا تتوقف عن التضرع إلى الخالق الرحيم الذي منها هذه المنحة بغير حول ولا قوة ألا يحرمها منها ...
ثم رفعت رأسها وكفكفت دمعها ..... ومن بين ضلوعها صوت اليقين يطلب منها أن تضع وليدها في تابوت صغير وتلقيه في النهر العظيم ..... تهز رأسها وكأنها تنفض عنها وساوس الشيطان وتتأكد أنه ليس حلم اليقظان .... ولكنه وحي حق
قد نتخيل أحياناً أن الوحي سيكون بملاكٍ قادم من السماء يحدثنا ويحاورنا ..... ولكنه ليس كذلك إلا للأنبياء ..... وحي السماء صوت يقرع الأذن والقلب آمراً بغير هوى النفس .... ومن رحمة الله بعباده الذين يوحى إليهم أن يربط على قلوبهم فيصيروا مؤمنين
﴿ لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ..﴾
وجمعت من الخوص أعواداً وما أكثرها على ضفة هذا الماء الجاري الصافي في تلك القرية الصغيرة ( الموجودة حالياً في مركز فاقوس بمحافظة الشرقية ) وصنعت من الخوص ذلك الصندوق الصغير ... وبطنته بالحشايا الطرية ... وربتت عليها بيديها لتتأكد أنها ناعمة لينه ... ثم حملته .. فنظر إليها وقد أشرق وجهه الوضاء .... فألقمته ثديها .. من يعلم إلى أين سيسير وكم من الأيام سيظل بلا طعام ..... ورضع هذه المرة كما لم يفعل ... فارتوى وشبع وأغمض جفنيه واستسلم لنوم عميق ..... فأودعته الذي لا تضيع ودائعه .... وحركت الماء بيديها ... فتحرك الصندوق مع الموج وابتعد
يا إلهي ..ماذا فعلت بصغيري ؟ خفت عليه أن يقتله فرعون فأسلمته للمجهول .... ونادت : كلثم يا بنتي " قُصيه عن جنب ( الجنب هو البعد) ولا تدعيه يغيب عن عينيك ,
فتابعته عن بُعد حتى لا يلحظها أحد ..
وأرسته يد الله بعيداً ... بعيداً ... عند طرف النهر حيث وقفت بعض الجواري تلعب وتتضاحك في حضور السيدة الأولى ملكة البلاد .... جميلة كانت زوجة فرعون .... وكيف لا وقد اختارها بنفسه من غير أسرته الحاكمة حين لمحها في أحد الاحتفالات ... جمالها من هذا النوع الصافي الراقي ....الذي لا تستطيع أن تسحب نظرك منه ... يأسرك .. ويسلبك تركيزك إلا من شيء واحد .... رؤيته
ولكنها حزينة ... كل هذا الجمال والشباب والمال والسلطة ... والحزن يعشش بين الجفون ... فيضفي على الملامح حناناً ورقة
وصرخت جارية .... هدية النهر العظيم يا مولاتي... تابوت صغير
لابد انه كنز من كنوز الآلهة
احذرن أن يكون فيه حية البحر
أو ربما احد الآلهة الشريرة
واقترب الحراس من أوكارهم المخفية ..... فلن تمسه مولاتهم قبل أن يتأكدوا منه ... فالأذى يقتلهم ولا يمسها هي – محبوبة الفرعون الأثيرة – أي سوء
إنه وليد
رضيع
من بنى إسرائيل ... انظري إلى ثيابه
نعم ليس مصرياً .... بل عبراني
مولاتي سنأخذه إلى فرعون بعد أن نقتله
ولكن هذا الحارس المتبلد لم ير الدماء التي تدفقت إلى جمالها الشاحب ... ولا نظرة الحب التي أطلت من عينيها ....
انتظر
أمراً واجب التنفيذ ..... ورغبة آمرة
حملته واحتضنته وضمته إلى صدرها ثم أرسلته لتنظر إليه .... تفتحت عيونه الناعسة ... وتثاءب فمه الصغير كمن نام ليالي واياماً .... ثم ابتسمت ملامحه وداعب وجهها بيده الصغيرة ....
ودوى صوت الفرعون ... اقتلوه إنه صبي إسرائيلي
فانطلق صوتها عذباً راجياً : لا .. عسى أن نتخذه ولداً
وخارت قوى فرعون واستسلم لعينيها الجميلتين اللتان حرم نظراتهما الناعسة منذ زمن .... إنها لا تطلب شيئاً ولا ترجو أحداً ... وتتجنبه بكبرياء ... وهو من يسير إليها ذليلاً يسترضيها ..... مع كل شمس ... رغم كثرة النساء بين يديه
ومصمص الصغير شفتيه وقلب رأسه في أحضانها باحثاً عن نبع طعامه
﴿ وحرمنا عليه المراضع من قبل ..﴾
فقالت أخته : لقد وصلت إلى قلب الدار مع وجود الحرس وهذا درس في التخفي ثم كان قولها : هل أدلكم ؟ ولم تقل هل آتيكم لأنها ليست خادمة ثم لم تقل مرضعة لأنها تأبى أن تجعل من أمها مرضعة بل قالت : أهل بيت , وكلمة بيت تستعمل للدلالة على الأصل , ثم قالت : يكفلونه لكم والكفالة تربية جسمية و نفسية وروحية , وهم له ناصحون : أي مخلصون ..
ما الذي رأته الملكة آسيا في وجه هذه الفتاة جعلها تثق أن أهل هذا البيت سيكونون أفضل من سابقيهم وأن الرضيع الذي يصرخ جوعاً منذ أيام ويرفض حضن كل امرأة حاولت ضمه سيستلم لهم ؟؟؟؟ فاستجابوا لها وأتوا بأمها فأرضعته , وقالت أمه أنا لا أمكث به عندكم لأننا أهل بيت ولا أحب أن يقال أنني مرضع ... آخذه بيتي وأعود به إليكم وقتما تشاؤون
وبين المرأتين جرى حوار صامت لا يعلمه إلا الله ... ولكن إحداهن قالت للأخرى أعلم انك أمه ولكن لا تحرميني منه بحق إلهك الذي تعبدين ... فردت الأخرى .. إن الله جاعل لك وله أمراً فلا تجزعي .... وتوكلي على الرزاق الرحيم
وابتسمتا في صفاء .... وتصادقتا في حب نبي الله موسى
: ﴿ فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ..﴾
اخوكم
احمد حمدي