عندما ظللني الوادي مساء | كان طيف في الدّجى يجلس بقربي |
في يديه زهرة تقطر ماء | عرفت عيني بها ادمع قلبي |
*** |
قلت من أنت؟ فلبّاني مجيبا | نحن ياصاح غريبان هنا |
قد نزلنا السّهل و الليل الرّهيبا | حيث ترعاني و أرعاك أنا |
قلت يا طيف أثرت النّفس شكا | كيف أقبلت؟ و قل لي من دعاكا |
قال أشفقت من اللّيل عليكا | فتتبّعت إلى الوادي خطاكا |
و دنا مني و غنّاني النّشيدا | فعرفت اللّحن و الصّوت الوديعا |
هو حبّي هام في الليل شريدا | مثلما همت لنلقاك جميعا |
*** |
و تعانقنا و أجهشنا بكاء | و انطلقنا في حديث و شجون |
و دنا الموعدفاهتجنا غناء | و تنظّرناك و اللّيل عيون |
*** |
أقبل اللّيل فأقبل موهنا | و التمس مجلسنا تحت الظلال |
وافني نصدح بألحان المنى | و نعبّ الكأس من خمر الخيال |
*** |
أقبل اللّيلة و انظر و اسمع | كلّ ما في الكون يشدو بمزارك |
جئت بالأحلام و الذّكرى معي | و جلسنا في الدّجى رهن انتظارك |
سترى يا حسن ما أعددته | لك من ذخر و حسن ومتاع |
هو قلبي في الهوى ذوّبته | لك في رفّاف لحن و شعاع |
*** |
وهو شعر صوّرت ألوانه | بهجة الفجر و أحزان الشّفق |
و نشيد مثّلت ألحانه | همسات النّجم في أذن الغسق |
*** |
ذال قلبي عاريا بين يديك | أخذته منك روعات الإله |
فتأمّله دما في راحتيك | و ذماء منك يستوحي الحياة |
*** |
باكي الأحلام محزون المنى | ضاحك الآلام بسّام الجراح |
لم يكن إلاّ تقيا مؤمنا | بالذي أغرى بحبّيك الطّماح |
*** |
يتمنّى فيك لو يفنى كما | يتفانى الغيم في البحر العباب |
أو يتلاشى فيك حيّا مثلما | يتلاشى في الضّحى لمح الشّهاب |
*** |
زهرة أطلعها فردوس حبّك | استشفّت فجرها من ناظريك |
خفقت أوراقها في ظلّ قربك | و سرها أنفاسها من شفتيك |
*** |
هي من حسنك تحيا و تموت | فاحمها يا حسن أعصار المنون |
أولها الدّفء من الصّدر الحنون | أو فهبها النّور من هذي العيون |
*** |
دمعها الأنداء و العطر الشّجا | و صدى أنّاتها همس النّسيم |
فاحبها منك الرّبيع المرتجى | تصدح الأيّام باللّحن الرّخيم |
هبط الأرض كالشعاع السنيّ | بعصا ساحر و قلب نبيّ |
لمحة من أشعّة الرّوح حلت | في تجاليد هيكل بشريّ |
ألهمت أصغريه من عالم الحكـ | ـمه و النّور كلّ معنى سريّ |
و حبته البيان ريّا من السحـ | ـر به للعقول أعذب ريّ |
حينما شارفت به أفق الأر | ض زها الكون بالوليد الصّبيّ |
و سبى الكائنات نور محيّا | ضاحك البشر عن فؤاد رضيّ |
صور الحسن حوّم حول مهد | حفّ بالورد و العمار الزّكيّ |
و على ثغره يضيء ابتسام | رفّ نورا بأرجوان ندي ّ |
و على راحتيه ريحانة تنـ | ـدى و قيثارة بلحن شجيّ |
فحنت فوق مهده تتملّى | فجر ميلاد ذلك العبقريّ |
و تساءلن حيرة : ملك جا | ء إلينا في صورة الإنسيّ؟ |
من ترى ذلك الوليد هـ | ـشّ له الكون من جماد و حيّ؟ |
من تراه؟ فرّن صوت هتوف | من وراء الحياة شاجي الدّويّ |
إنّ ما تشهدون ميلاد شاعر |
*** |
كان وجه الثّرى كوجه الماء را | ئق الحسن مستفيض الضّياء |
حين ولّى الدّجى و أقبل فجر | واضح النّور مشرق اللألاء |
بهج في السّماء و الأرض يهدى | من غريب الخيال و الإيحاء |
صفّقت عنده الخمائل نشوى | و شدا الطّير بين عود و ناء |
مظهر يبهر العيون و سحر | هزّ قلب الطّبيعة العذراء |
و جلا من بدائع الفنّ روضا | نمّقته أنامل الإغراء |
ما الرّبيع الصّناع أوفى بنانا | منه في دقّة و حسن أداء |
نسق الأرض زينة و جلاها | قسمات من وجهه الوضّاء |
ربوة عند جدول عند روض | عند غيض و صخرة عند ماء |
فزها الفجر ما بدى و تجلّى | و ازدهى بالوجود أيّ ازدهاء |
قال:لم تبد لي الطّبيعة يوما | حين أقبلت مثل هذا الرّواء |
لا و لم يسر ملء عيني و أذني | مثل هذا السّني و هذا الغناء |
أيّ بشر لها تجمّلت الأر | ض و زافت في فاتنات المرائي؟ |
علّها نبّئت من الغيب أمرا | حملته لها نجوم المساء |
قال ماذا أرى ؟ فردّد صوت | كصدى الوحي في ضمير السّماء |
إنّ هذا يا فجر ميلاد شاعر |
كان فجر و كان ثمّ صباح | فيه للحسن غدوة و رواح |
بكرت للرّياض فيها عذارى | تزدهيهنّ صبوة و مراح |
حين لاحت لهنّ رنّ هتاف | و علت بالدّعاء منهنّ راح |
قلن : ما لأجمل الصّباح فما حـ | ـلّ على الأرض مثل هذا صباح |
فتعالوا بنا نغنّي و نلهو | فهنا اللّهو و الغناء يتاح |
و هنا جدول على صفحتيه | يرقص الظّلّ و السّني و الوضّاح |
و على حافتيه قام يغنّيـ | ـنا من الطّير هاتف صدّاح |
و فراش له من الزّهر ألوا | ن و من ريق الشّعاع جناح |
دفّ في نشوة يناديه نوّا | ر و عطر من الثّرى فوّاح |
و هنا ربوة تلألأ فيها | خضرة العشب و النّدى اللماح |
و نسيم كأنه النّفس الحا | ئر تصغي لهمسه الأدواح |
مثل هذا الصّباح لم يلد الشّر | ق و لم تنجب الشّموس الوضاح |
لكأّنا بالكون أعلام ميلا | د و عرس قامت له الأفراح |
أيّ حسن نرى؟ فردّد صوت | شبه نجوى تسرّها أرواح |
إنّ هذا الصباح ميلاد شاعر |
و تجلى المساء في ضوء بدر | و شفوف غرّ الغلائل حمر |
و سماء تطفو و ترسب فيها الـ | ـسّحب كالرّغو فوق أمواج بحر |
صور جمّة المفاتن شتّى | كرؤى الحلم أو سوانح فكر |
لا ترى النّفس أو تحسّ لديها | غير شجو يفيض من نبع سحر |
أفق الأرض لم يزل في حواشيـ | ـه صدى حائر بألحان طير |
و بأحنائه يرفّ ذماء | من سني الشّمس خافق لم يقرّ |
و على شاطئ الغدير ورود | أغمضت عينها لمطلع فجر |
وسرى الماء هادئا في حوا | فيه يغنّي ما بين شوك و صخر |
و كأنّ النجوم تسبح فيه | قبلات هفت بحالم ثغر |
و كأنّ الوجود بحر من النو | ر على أفقه الملائك تسري |
هتفت نجمة: أرى الكون تبدو | في أساريره مخايل بشر |
و أرى ذلك المساء يثير السّحـ | ـر و الشّجو ملء عيني و صدري |
ترانا بليلة الوحي و التّنـ | ـزيل؟ أم ليلة الهوى و الشّعر؟ |
ما لهذا المساء يشغفنا حبّـ | ـا و يروي بنا الفتون و يغري |
أيّ سرّ ترى؟فرنّ هتاف | بنجيّ من الصدى مستسرّ |
إنّ هذا المساء ميلاد شاعر |
قمر مشرق يزيد جمالا | كلّما جدّ في السّماء انتقالا |
و سكون يرقى الفضاء جناحا | ه على الأرض يضفوان جلالا |
هذه ليلة يشفّ بها الحسـ | ـن و يهفو بها الضّياء اختيالا |
جوّها عاطر النّسيم يثير الـ | ـشّجو و الشّعر و الهوى و الخيالا |
و إذا النّهر شاطئا و نميرا | يتبارى أشعّة و ظلالا |
و سرى فيه زورق لحبيبـ | ـن شجيّين ينشدان وصالا |
يبعثان الحنين في صدر ليل | ليس يدري الهموم و الأوجالا |
شهد الحبّ منذ كان روايا | ت على مسرح الحياة توالى |
و جرت ملء مسمعيه أحاديـ | ـث عفا ذكرها لديه و دالا |
ذلك الباعث الأسى و المثير الـ | ـنّار في مهجة المحبّ اشتعالا |
لم يجب قلبه لميلاد نجم | لا و لم يبك للبدور زوالا |
بيد أنّ القضاء أوحى إليه | ليذوق الآلام و الآمالا |
فأحسّ الفؤاد يخفق منه | و رأى النّور جائلا حيث جالا |
و استخفّته من شفاه الحبيـ | ـبين شؤون الهوى فرقّ و مالا |
و تجلّت له الحياة و ما فيـ | ـها فراعته فتنة و جمالا |
فجثا ضارعا: أرى الكون ربّي | غير ما كان صورة و مثالا |
لم يكن يعرف الصّبابة قلبي | أو تعي الأذن للغرام مقالا |
أتراها تغيّرت هذه الأر | ض أم الكون في خيالي حالا |
ربّ ماذا أرى؟ فرنّ هتاف | مستسرّ الصّدى يجيب السّؤالا |
إنّ هذا يا ليل ميلاد شاعر |
*** |
و تجلّى الصّدى الحبيب السّاحر | في محيط من الأشعّة غامر |
و سكون يبثّ في الكون روعا | وقفت عنده اللّيالي الّدوائر |
و ستكان الوجود و التف الدّهـ | ـر و أصغت إلى صداه المقادر |
لم يبن صورة و لكن راته | بعيون الخيال منّا البصائر |
قال: يا شاعري الوليد سلاما | هزّت الأرض يوم جئت البشائر |
فإليك الحياة شتّى المعاني | و إليك الوجود جمّ المظاهر |
لا تقل كم أخ لك اليوم في الأ | رض شقيّ الوجدان أسوان حائر |
إن تكن ساورته في الأرض آلا | م و حفّت به الجدود العواثر |
فلكي يستشفّ من خلل الغيـ | ـب جمالا يذكي شباب الخواطر |
و لكي ينهل السّعادة من نبـ | ـع شهيّ الورود عذب المصادر |
فلكم جاء بالخيال نبيّ | و لكم جنّ بالحقيقة شاعر |
إنّما يسعد الوجود و تشقو | ن و إنّي لكم مثيب و شاكر |
و لكم جنّتي اصطفيتكم اليو | م لتحيوا بها جميل المآثر |
فانسقوها جداولا و رياضا | و اجعلوها سرح النّهى و النّواظر |
اجعلوا النّهر كيف شئتم و مدّوا | شاطئيه بين المروج النّواضر |
ماؤه ذوب خمرة و سنا شمـ | ـس وريّا ورد و ألحان طائر |
وضعوا هضبة تطلّ عليه | ذات صخر منوّر العشب عاطر |
واغرسوا النّخلة الجنيّة فوق النّبـ | ـع في الموقف البديع السّاحر |
و اجعلوا جنّتي قصيدة شاعر |
*** |
أدخلوا الآن أيّها المحسنونا | جنّة كنتم بها توعدونا |
اجعلوها من البدائع زونا | و املأوها من الجمال فنونا |
املأوها فنّا و ليس فتونا | و انشروا الصّفو فوقها و السّكونا |
غير لحن يرفّ فيها حنونا | تتغنّى به الطّيور و كونا |
و سنا مشرق يضيء الدّجونا | سرمديّ الشّعاع يمحو المنونا |
رائق النّور ليس يعشي العيونا | وتغنّوا بها كما تشتهونا |
و صفوها جداولا و عيونا | وورودا نديّة و غصونا |
لا تثيروا بها الهوى و المجونا | و احذروا أن تذكّروا المجنونا |
فلقد ثاب من هواه شجونا | و خلا مهجة و جفّ شؤونا |
و هو في جنّتيه أسعد شاعر |
*** |
أيّها الشّاعر اعتمد قيثارك | و اعزف الآن منشدا أشعارك |
و اجعل الحبّ و الجمال شعارك | و ادع ربّا دعا الوجود و بارك |
فزها و ازدهى بميلاد شاعر |